فاضل الأسود
مجلة القاهرة
رقم العدد : 62
تاريخ الإصدار : 15 أغسطس 1986
صفحة 84
المكان والصورة
في لقطة ثابتة على مسطح هائل الاتساع من مياه نهر النيل، فيما بين ضفتيه عند مدينة الأقصر، يظهر فيها مدى بُعد المسافة بين الشاطئين، وتباعُد الضفتين، رغم أنهما يشكلان حافتي النهر وجانبيه الخاصتين منذ آلاف السنين. لكن شتان بين "الهنا" فوق هذه الضفة، و"الهناك" على الضفة الأخرى.
من هذه اللقطة الثابتة على مجرى النيل، تبدأ عناوين فيلم "الطوق والأسورة" في الظهور، ثم تتقدم الكاميرا في لقطة مقرَّبة حتى يمكن ملاحظة بعض التفاصيل فوق الضفة الأخرى "الهناك"، والتي لم يكن من السهل رصدها أو مشاهدتها من فوق هذه الصفة "الهنا"، والتي تبدأ من عندها الأحداث.
وعندما تقترب الكاميرا أكثر وأكثر، يمكن رؤية كثافة اللون الأخضر مُشَكِّلًا خط الأفق فيما يلي بحر المياه الساكنة، والتي يجب ملاحظة أنها ما زالت داخل كادر ثابت أشبه بالصورة الفوتوغرافية (كارت بوستال). وعند حافة المياه، ترى العين جماعات كثيرة من طيور النورس البحرية البيضاء، وهي جميعها أيضًا ساكنة بلا حراك (فما زال الكادر ثابتًا)، ومن فوق خط الأفق كشريط أخضر من الأشجار والحقول والمزروعات، نرى السماء زرقاء صافية بلا شوائب، ولكنها تنطبق على ما تبقى من قاعدة الصورة المملوءة بالمياه والطيور والمزروعات.
من هذا التشكيل الجماليّ لمفردات بسيطة من مياه النهر، والطيور البحرية البيضاء، ومساحات من اللون الأخضر، ومن فوقها السماء، يقدم "خيري بشارة" أجود مدخل للاقتراب من رواية "الطوق والأسورة" والمأخوذ عن النص الأدبي الذي صاغه "يحي الطاهر عبد الله".
وما إن تنتهي العناوين من الظهور فوق الشاشة، حتى تزيد الكاميرا من اقترابها قليلًا، ويختفي الكادر الثابت، ويذوب ذلك التكوين الجماليّ لعناصر اللوحة التشكيليَّة، وتحل محلها لوحة أخرى متحركة، بل هي تضخب أو تنفجر بالحركة حيث تتابع الكاميرا أسراب تلك الطيور البحرية البيضاء وهي ترفرف بأجنحتها، ثم ترتفع إلى أعلى وتطير محلقة باتساع الفضاء جماعات من بعد جماعات.
أما على الأرض فالأشجار تداعبها نسمات الهواء، وبين ضفتيّ النهر، تنطلق خطوط المياه التي كانت ساكنة طوال فترة نزول العناوين، وتتحول تلك الصفحة المستوية من صفحة المياه الراكدة إلى هدير متلاحم من موجات المياه، من خلفها صفوف أخرى من الأمواج تسرع من خلفها، لكن هيهات أن تدركها، وعبثًا أن تتلاقيا.
لقد حاولت جهدي أن أنقل للقارئ من خلال تلك السطور أبسط التفاصيل قدر الطاقة، كي لا يفوته من جماليات تلك اللوحة التشكيلية بالغة الرقة والشاعرية، والتي تكشف عن حس مرهف وإدراك مميز لكاتب السيناريو، وكذا رؤية المخرج المبدعة في اختيار تلك البداية، ومعهما بالتأكيد عين الكاميرا النفَّاذة، والتي يديرها مصور بارع في مهنته، وهو طارق التلمساني، والذي تتطور رؤيته في تشكيل التكوينات البصرية باستمرار من فيلم إلى آخر.
ومن وسط هذه اللقطة المشهدية المشحونة إلى حد التخمة بالعديد من الموجودات المتوهجة بعناصر الدلالة، يصبح من الضروريّ أن ندرك أن زخم الأحداث "هنا" مرتبط ومترافق، بل هو مقيد بكل ظروف الحياة "هنا"، ومن كان "هنا" لا يمكنه أن يدرِك أو يعاين تفاصيل الأشياء "هناك"، لأن بُعد المسافة والأفق البعيد المترامي "هناك"، يجعل من صورة الحياة والأشياء مثل حجم الكائن المجهريّ الدقيق، ويصبح كل شيء "هناك" مُختَزَلًا في الحجم والمساحة، ونفرق ونستفرق في كل ما هو "هنا" فقط.
وهو ما حاول الفيلم أن يطرحه عل المتفرج من ذلك التشبيه البليغ، فإذا كان الفن هو القدرة الفائقة على التأمل والحلم والقدرة على التعبير، فإن النجاح الحقيقيّ لأي مبدع هو اجتيازه المسافة الواقعة بينه وبين المتلقي من خلال الصورة الدالة. فالنهر بما فيه من مياه، والوادي بما عليه من خضرة الزرع والتلال والهضاب، والصحراء من خلفها، يمكن أن تكون موضوعًا للدرس في حصة الجغرافيا، أو خرائط ورسومًا هندسية داحل أطلس الجغرافيا، لكنها لدى الفنان تكتسب مدلولات أخرى وتزدحم بالمشاعر والأحاسيس والذكريات، وتنبثق من داخلها الأحلام والكوابيس والتداعيات، ويصبح الكون كله متوحدًا داخل تلك الصورة، وتركز بداخلها.
وإذا استطاع الفنان أن ينقل إلينا بنجاح حقيقة مشاعره، فإن حجم الدهشة التي تتفجر بداخلها تصبح أكبر من أن تستوعبها كلمة الدهشة، ويتحول المكان إلى قيمة وإلى فاعل رئيسيّ يقود الأحداث وتتطور رؤيتنا البصرية من مجرد الإعجاب بالتكوين الجماليّ للكادر السينمائيّ، إلى إدراك مدى قوة التأثير والفعل الذي يمثله المكان.
ولا أبالغ إذا قلت إن سطوة المكان "الهنا" هو محور ارتكاز رواية "الطوق والأسورة"؛ فالدائرة المفرغة التي يعيش بداخلها "هنا" كل شخوص قصة "يحي الطاهر عبد الله" هي بتأثير سطوة "الهُنا"؛ ذلك أن الناس "هنا" كما يقول عنهم المدرس (محمد منير): "فاكرين إن نهاية الدنيا هناك عند النقطة اللي بتلتقي فيها السما مع الجبال عند خط الأفق، وهم عايشين هنا لأنهم فاكرين إن مافيش حاجه هناك"، ويتابع المدرس حديثه، فيقول: "لو عرف أهل البلد إن النيل ممكن ينقلهم لمكان تاني، ما كانش فِضِل هنا ولا واحد".
إن الدائرة الكابوسية التي يعيش بداخلها الناس في تلك القرية، مكبَّلين بالخرافة والجهل، يطحن أجسادهم المرض، ويذلهم الفقر هي النتيجة الحتمية للتشيث بكل ما هو "هنا"، ونفي ما هو "هناك"، فالطوق يضيق من حول الرقاب حتى تزهق الأرواح، فالفتاة "فهيمة" تموت في أكثر لحظات عمرها توهجًا، وبعد أن تمنح الوجود من حولها مولودًا جديدًا، لكن ما أتعسه من وليد. و"فهيمة" تدفع حياتها بتأثير الوقوع في أسر الخرافة التي يمارسها ذلك الحلاق المشعوذ، وكأنه قدر أعمى غشوم، فابنة "فهيمة".
والتي جاءت إلى الوجود في مقابل ثمن فادح دفعته أمها، يصبح مصيرها هي الأخرى مشدودًا إلى سكين فتى غبي أعمى بصيرته الجهل، فيمزق جسد "فرحانة" خلاصًا من وهم لم يتحقق من صدقه، وكأن "الآن" لا يفصله عن ذلك "الأمس" عشرون عامًا، لكن كل تلك السنوات العشرين لم تفلح في تطوير الحياة "هنا"، ولأن بطش وسيطرة المكان "هنا" يجعلنا دائمًا غير قادرين على تجاوز المسافة الفاصلة بين "هنا" و"هناك".