فاضل الأسود
مجلة القاهرة
رقم العدد : 58
تاريخ الإصدار : 15 إبريل 1986
صفحة 12
لست أبغض شيئًا كما أبغض القاء الدروس في الوعظ والارشاد، وتنبيه الغافلين، وايقاظ النائمين، وتحذير الذين لا يغني فيهم التحذير ولا النذير. وأنا، مع ذلك، مضطرَا إلى هذا أشد الاضطرار، أراه واجبًا تفرضه الوطنيّة الصادقة، وتفرضه الكرامة الإنسانية، ويفرضه الحرص على ألَّا تتعرض مصر للأخطار العنيفة قبل أبانها". (من كتاب المعذبون في الأرض - طه حسين).
لا يكاد الفيلم المصري أن يخلو من شخصية الشرير، ذلك لأن الذاكرة لا تجود علينا بفيلم واحد لا نرى من بين أبطاله ممثلًا أو أكثر لأدوار الشر؛ فشخصية البطل الشرير هي الطرف المقابل لشخصية البطل الطيب، فهما وجهان لعملة واحدة، لا يمكن رؤية أحدهما منفصلًا بذاته أو بمعزل عن الآخر لأنهما قطبا الصراع في ثنائية الخير والشر التي تدور في فلكها معظم الأفلام المصرية.
بل قد لا نغالي إذا قلنا أن شخصية الشرير في الأفلام المصرية المعاصرة صارت تكتسب أبعادًا جديدة وترتاد آفاقًا لم تكن مطروقة من قبل، وهي -في المقابل- تكتسب مزيدًا من جمهور المشاهدين، تسحبهم تدريجيًّا من رصيد البطل الطيب، بل قد تستدرجهم ربما دون وعي من المشاهد، وربما دون قصد من قِبَل صناع الفيلم، لكن المردود النهائي لذلك الاختلاس البطيء والمستمر هو تضخيم الرصيد الجماهيريّ للبطل الشرير. أما على الصعيد المالي، فحدث ولا حرج، فأجور النجوم ترتفع بمعدلات لم يعرفها الفيلم المصري من قبل.
وحول تلك الظاهرة التي نستشعر خطورتها، فلا بد من وقفة قصيرة للتأمل نحاول أن نضع المشكلة تحت مجهر الفحص، وأن نقترب بالقدر الذي يتيح لنا مزيدًا من الفهم والاستيعاب.
وحتى نستطيع أن نلمس جوانب شخصية الشرير كما تقدمها الشاشة المصرية، وكيف يقوم فنان السينما بصياغة ملامح تلك الشخصية، فإننا نلتمس من القارئ قليلًا من سعة الصدر، وقدرًا يسيرًا من التأمل؛ ذلك أن شخصية الشرير لا يمكن فحصها بمعزل عن ظواهر العنف والسلوك العدواني. كما أن سلوكيات العدوان ومظاهر العنف الذي تصوره الشاشة تمتد خيوطه من شاشة العرض إلى مقاعد المتفرجين، ثم هي تتشابك وتتقاطع عبر أولئك المشاهدين إلى جمهور أوسع في الشارع والمصنع والمدرسة، ومن ثمَّ، تصبح جزءًا من النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ لا يمكن فصله أو تجاهله.
ومن هنا نقترح صياغة بسيطة لأسلوب فحص الظاهرة، تتمثل في المحاور الآتية:
1- سلوكيات العدوان وظواهر العنف.
2- أشكال العنف (الاجتماعي والسياسي).
3- التركيبة الاجتماعية والسلوكية للشرير.
4- هل العنف مكون أصيل للشخصية المصرية؟
5- مدى ارتباط عنف الشاشة والواقع.
6- السينما المصرية واستثمارات العنف.
أولًا: سلوكيات العدوان وظواهر العنف
أ. العنف ظاهرة تاريخية
لعل ظاهرة العنف والممارسات العدوانية هي أقدم الظواهر الإنسانية على الإطلاق؛ فمنذ فجر التاريخ، مارس الإنسان قدرًا كبيرًا من العنف الدموي على أقرانه وجيرانه، وإذا شئنا الدقة فإنه حتى قبل أن يبزغ نور ذلك الفجر، فإن البعض قام بالفعل بممارسة سفك الدماء. وتُحدِّثنا الكتب السماوية جميعها حول أول جريمة قتل حدثت وقائعها فوق كوكب الأرض، حيث قام "قابيل" بقتل أخيه "هابيل"، وإذا كانت كتب السماء تعود بالنزاع بين ولديّ آدم إلى قضية قبول التقدِمة (القربان)، فإن التفاسير الوضعية، تعزوه بدورها إلى أسباب أخرى، يقصر المجال هنا عن شرحها أو التعرض إليها.
وإذا كان علماء الأنثروبولوجيا والمتخصصون في الأساطير قد فسروها على نحو مخالف، فلعل في كتابيّ "جيمس فريزر": "الغصن الذهبي" و"الفلكلور في العهد القديم" مزيدًا من التفصيل والتفسير، وعلى الرغم من أن كثيرًا من الحيوانات قادرة بدورها على شن معارك قتالية متشبهة في ذلك بالإنسان في ممارساته في العنف والعدوان، إلا أن ذلك النوع من العنف الحيوانيّ محدد ومحدود بقدرة طرفيّ الصراع (الصائد والفريسة)، وهو محكوم أشد الإحكام أيضًا، وهو صراع لا يتعدى طرفيّ القتال إلى بقية القطيع، كما أنه لا يهدد الجنس الحيوانيّ بالهلاك أو الانقراض.
ولا يوجد دليل واحد على أن العنف ينبُع من إحتياج سيكولوجي أو فسيولوجي، كما أنه ليس بغريزة طبيعية مثل بقية الغرائز المعروفة (الطعام، الجنس، الخ ..)، ورغم ذلك، فإن أسباب العنف وأشكاله في نمو مُطَّرِد وتتطور أسباب وأشكال القهر والعدوان بشكل مثير، وعلى نحو يكاد أن يصيب الجميع بآثاره المدمِرة والعنيفة.
وإذا كان "قابيل" قد قتل أخاه بسبب تَقَبُّل قربانه، فلقد تطورت الأحداث وتغيرت الظروف ليصبح العدوان أكثر دقة وتنظيمًا، وأغارت القبائل والشعوب من بعدها بعضها على البعض وهم جميعًا عندما يعودون ومعهم الأسلاب والسبايا والغنائم، تاركين من خلفهم الدمار والموت والأشلاء فوق أرض المعركة، لم يكن يعنيهم قبول قربان من غريمتهم، كما أن أحدًا منهم لا يفكر في تقديم صلاة للشكر بعد الانتصار، لكن سلوك العدوان من أجل مزيد من الثروة (الغنائم)، ومن أجل النساء (السبايا)، ومن أجل مصادر الطاقة والعمل المنزلي الرخيص (العبيد). وعجلة العنف مستمرة ولم تتوقف عن الدوران عبر التاريخ.
ب- العنف ظاهرة سلوك مرضيّ
لا بد وأن نتفق بداية على أن ممارسة العنف أو اللجوء إلى أساليب العدوان أو القهر، هي شكلًا ونمطًا مَرَضيًّا (باثولوجيًّا) لسلوكيات الأفراد والمجتمعات. كما أن ظاهرة السلوك العدواني في شكلها العام هي أبسط مظاهر التعبير المباشر الذي يمارسه البشر كترجمة لشعور العداوة تجاه بعضهم البعض.
وكأيَّة ظاهرة اجتماعية، فإن سلوكيات العدوان تتراوح من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى غيره من المجتمعات، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، وذلك تبعًا للظروف الاجتماعية والاقتصادية، وعوامل التنشئة الاجتماعية، وغيرها من عوامل البيئة الثقافية، الخ.
ومن المؤكد أن السلوك العدواني لدى البشر يعبر عن نفسه بوضوح منذ اللحظة التي يتم فيها انتقال الإحساس بالعداوة (بسبب الظلم مثلًا) من منطقة اللاشعور إلى منطقة الشعور، وهو ما يمكن تشبيهه بإزاحة الغطاء عن القمقم الذي كان يحوي المارد الجبار حبيسًا لسنوات طويلة من الكبت والقهر والمعاناة.
إن تَعَرُّض الفرد للخوف المباشر أو غير المباشر، سواء كان هذا الخوف حقيقيًّا أو متوهمًا، كما أن وقوع الأذى المباشر أو الضرر، أو حتى توهُّم ذلك، يصبح بدوره عاملًا مباشرًا وأساسيًّا في إطلاق ذلك المارد من عقاله. كما أن التجاهل أو الامتهان أو التحقير أو تقييد الحركة أو التحيز أو الاحباط هي أيضًا من جملة تلك الأسباب، ويُضاف إلى ذلك، أنها عوامل تدخل في نطاق المواجهات اليومية للنشاط البشري (في الشارع، المنزل، مكان العمل، ...).
كما أن القلق أو التوتر المستمر ولو بقدر قليل، على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ، وعدم توفُّر الإحساس بالأمان الشخصيّ أو الاستقرار الاجتماعي هي أيضًا من تلك المسببات التي تزيد من هياج موجة الإرهاب والعنف، وتُحفِّز بشكل متزايد وعنيف نحو مزيد من سلوكيات العدوان، كما أن الحرمان المستمر من الاحتياجات العاطفية والاجتماعية، أو التهديد بذلك من شأنه خلق حالة من القلق والتوتر، يستشعر معها الإنسان حالة تهديد مستمر وكأنه يعيش حالة عدوان دائم.
وأخيرًا، فإن خلق اتجاهات اجتماعية على مستوى السلوك ذات محتوى سلبي مثل التعصب العرقي والديني والسياسي تزيد من شحنة القلق والتوتر الاجتماعي والفرديّ معًا، وهذا بدوره يقود إلى مزيد من سلوكيات العداوة وممارسات العنف العدوان.
ثانيًا: أنواع العنف (الاجتماعي والسياسي)
برغم تشابك مظاهر السلوك العدوانيّ وظواهر العنف الدمويّ، فإنه يجب علينا تحديد العلامات الفارقة بين مظاهر العنف التي نعرفها. وربما كان من الأوجب أن نبدأ بطرح سؤال جوهريّ نستطيع من خلال الإجابة عليه أن نحصر ونحدد أنواع العنف المعروفة.
وسؤالنا على النحو التالي:
من ضد من؟
والعنف هنا كما يبدو من طريقة صياغة السؤال كما لو كان رسالة اجتماعية تنتقل بين طرفين، مرسِل ومستقبِل، وإن كان مضمون الرسالة واضحًا للجميع.
فإذا مارس الناس سلوكيات العدوان فيما بين أنفسهم بغض النظر -مؤقتًا- عن مواقعهم علوًّا أو هبوطًا فوق درجات السلم الاجتماعي، أو اختلاف وتعدد منابتهم الفكرية، أو عقائدهم الدينية والسياسية، فإن ذلك النوع من سلوكيات العدوان سوف نُطلِق عليه تعريف العنف الاجتماعي، أما إذا توجَّه تأثير العنف ناحية الآخرين خارج نطاق المجموعة الاجتماعية، فهو في عرف هذه الدراسة عنف سياسيّ، وإن كانت هذه النقطة بالذات قابلة لكثير من الفحص والدراسة.
ثالثًا: هل العنف مكوِّن أصيل للشخصية المصرية؟
لا شك أن مصر عبر تاريخها الطويل لم تعرف قيمًا أو سلوكًا عدوانيًا مثلما نراه الآن، وهو ما سوف نعود إليه في نقطة لاحقة. ذلك أن مصر غيَّرَت لسانها الذي تنطق به أكثر من مرة؛ فعندما وقعت مصر تحت الحكم اليوناني تخلت عن لغتها الأصلية وتبنَّت ما يُعرَف باللغة القبطية، ثم تراجعت اللغة القبطية لتصبح مقصورة على رهبان الأديرة، ومن بعدها لغة لقداس الكنائس الأرثوذكسية، ثم أفسحت مصر مكانًا رحبًا للغة العربية عقب مَقْدَم عمرو بن العاص.
وقد غيَّرَت مصر من عقيدتها الدينية أيضًا بالقدر نفسه؛ فلقد عرفت مصر القديمة العديد من الآلهة المحليَّة، ثم وحدتهم في عبادة "آمون"، ثم أدمجت معه "رع"، ثم تحوَّلَت إلى عبادة الإله الواحد عند ظهور أول دعوة للتوحيد على يد "أخناتون"، وبعد هزيمة "الآتونيين" عادت مصر مرة أخرى إلى معبودها القديم "آمون"، وظلت كذلك حتى جاءتها بشارة المسيح، فأصبحت مصر معقلًا هامًّا ورئيسيًّا للتراث المسيحيّ، ومرة أخرى تدخُل مصر إلى رحاب دين جديد، بل وتصبح مصر من بعده منارته ومركز دعوته، وذلك بعد أن اعتنق السواد الأعظم من سكانها عقيدة الإسلام.
وهي أيضًا غيَّرَت مذهبها الدينيّ من المذهب السنيّ إلى المذهب الشيعيّ بعد دخول جيش "جوهر الصقليّ" وطوال حكم الفاطميين، ثم عادت مرة أخرى إلى المذهب السنيّ بيسر وبساطة "دون أن يتناطح في ذلك شتَّان" كما ورد على لسان "ابن إياس".
هذا التجانس والتجنيس هو أبرز صفات المصريين طوال تاريخهم، ولا يحفظ لنا ذلك التاريخ واقعة واحدة تروي مقتل الآلاف أو المئات كحوادث عنف دينيّ أو إجتماعيّ، بل كانت مصر قادرة دائمًا على تذويب كل ما اعترض سبيلها من مشكلات، وإذابة كل من يحاول أن يسد أمامها سبيل التطور أو الحياة، ثم إعادة إفراز ذلك في نسيج متماسك ومتماثل بطريقة الأنبوب المفتوح، وليس الصندوق المغلق.
رابعًا: عنف الشارع المصري.. إلى أين؟
لا يكاد يمر يوم دون أن تطلع علينا الصحف بسيل من الأحداث الكابوسيَّة المروِّعة، حتى بات الأمر عند البعض أشبه بوجبة يوميَّة لا تخلو من المُشهيات.
غير أن خروج أحداث الموت الدمويّ والممارسات العدوانية إلى نطاق المحرمات مثل قتل الآباء لأبنائهم أو العكس، وغيرها من الأحداث التي هي ضد منطق الطبيعة وتعاليم الأديان وموروثات وقيم ذلك الشعب في تاريخه الطويل، لهو أمر أكثر من عاجل وأكثر من هام.
النفس البشرية لا يمكن أن تقبل أو تصدِّق على أي مستوى أن تقوم سيدة فاضلة تعمل بالتدريس في أحد مدارس منطقة الأميرية لبراعم صغيرة من أطفالنا، والتي كانت قد أرسلت ابنتها الصغيرة لشراء بضعة أرغفة من الخبز، ولمَّا حضرت الطفلة بعد أكثر من ساعتين خالية الوفاض، مما أثار الأم التي كانت تعد طعام الغذاء للأسرة بالمطبخ، وما كان من هذه الأم التي أرادت أن تعاقب الطفلة، فقذفتها بشيء كان في متناول يدها، ولم تفق الأم إلا على منظر السكين مغروسًا في صدر طفلتها! فأي مأساة تلك التي تجعل من طفلة في ربيعها الثامن تدفع حياتها رخيصة هكذا، ضحية لطابور الخبز؟!
وأي منطق ذلك الذي يقول أن مشادة كلامية مما تحدث في بلادنا وفي كل مكان في العالم، كانت تدور في جراج أسفل أحد عمارات منطقة "سيدي جابر" بالإسكندرية، طرفها الأول مليونير ومهندس استشاري وأستاذ سابق بالجامعة، وطرفها الثاني شاب صغير يدرس في كلية التجارة، وتنتهي بأن يغرس المهندس نصل سكينه الحاد في صدر الطالب، فيرديه قتيلًا؟!
وهذا المجند الذي يقتل عمته وأطفالها دون سبب، وذلك الخلاف الأحمق بين أفراد أسرة حول سعر كيس من ملح الطعام، والذي ينتهي بمصرع ثلاثة أفراد، ... الخ.
ورغم كثرة حوادث العنف الدموي الأحمق، فنحن لا ننوي التوسع في ذكر تفصيلات يعرف القارئ الكثير عنها، ولكن لا بأس أن نشير إلى مثال واحد لا زال صداه ماثلًا في كل الأذهان، يوم أن فصل الخفير "محروس" بشركة العبد للمقاولات، بغير الطريق التأديبي، ولمَّا كسب الدعوى القضائية، عجز عن تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة، فما كان منه إلا أن أفرغ رصاص مسدسه في صدور ثلاثة من مديري الشركة. إذًا نحن بصدد ظاهرة واضحة ومحددة لحالة يسود بها العنف والسلوك العدواني والشعور بالعداوة.
خامسًا: أفلام العنف وشخصية الشرير في الفيلم المصري
إن الفن والأدب وسائر أنواع الإبداع الفني هي نتاج مرحلة اجتماعية معينة وظروف وملابسات معيشية خاصة، وكما يتأثر الفن والإبداع العقليّ بشكل عام بمجمل الحصيلة التي تشكل تيارات الفعل، ورد الفعل، وعمليات التفاعل في عقل المؤلف كصدى لما يعيشه أو يعايشه من ظروف وقضايا ومشكلات، فإنه وبالقدر نفسه يؤثر فيما حوله من أفراد داخل البناء الاجتماعي. وهذه العلاقة التبادلية بين المبدع والمتلقي لا تحتاج منا إلى دليل.
ولأن فن السينما هو أهم وأخطر وسائل الاتصال جميعًا في عالمنا المعاصر، فإن تأثيراته على المُشاهِد لا بد وأن تخضع للدراسة المتأنية؛ ذلك أن اللقطة الواحدة من شريط الفيلم يتكرر عرضها بضع مرات في اليوم الواحد في عدة مدن، داخل عشرات من دور العرض، أمام مئات الآلاف من المشاهدين، فتحدث فيهم المشاعر نفسها، وكذا ردود الأفعال، وبذات القدر تقريبًا، وبذات الكيفية.
وأفلام الشر والعنف في السينما المصرية قديمة قدم الفيلم المصري ذاته، وهي أيضًا كثيرة بشكل يدعو إلى الانتباه.
شخصية الشرير
سبق أن وصفنا تلك الشخصية بأنها الطرف الثاني لثنائية الخير والشر التي يقوم عليها بناء الفيلم المصري، وأنه لا يكاد يخلو فيلم من تواجدها، حتى صار من الممكن أن نصفها بأنها العنصر الأساسيّ والثابت في تركيبة الفيلم.
ولقد خلقت السينما المصرية فئة من الممثلين والممثلات الذين نيط بهم أداء أدوار الشر على الشاشة المصرية، وكذلك تمثل مشاهد العنف والسلوك العدوانيّ. وكان وجودهم وطريقة أدائهم المميز كأطراف قبيحة وشرسة ذات مسلك عدواني ضد بقية شخصيات الفيلم، علامة مميزة على طبيعة الموضوع.
بل إن الأمر تطور فيما بعد على نحو أكثر تحديدًا، حيث صارت هذه الشخصيات تشكل جزءًا جوهريًا في طبيعة التعامل مع ذوق الجمهور، وتحريك نوازعه، وخلق اتجاهات وجدانية واجتماعية لديه. وبتزايد نجاح تلك التوليفة الفيلمية، صارت بعض الشخصيات الشريرة ذات قوة جذب جماهيري واسع، حتى صارت ظاهرة ملفتة. وقامت أجهزة الدعاية التابعة لعناصر المنتجين بصياغة شعارات جذَّابة تزيد من شعبية أولئك النجوم، وتضاعِف من قوة سحرهم الجماهيريّ. ودخل إلى قاموس المعرفة السينمائية عبارات مثل: "وحش الشاشة"، و"ملك الترسو"،.. الخ.
ولقد تعاقبت على هذه الأدوار أجيال مختلفة من الممثلات العظيمات أمثال" "نجمة إبراهيم، زوزو ماضي، زوزو نبيل، زوزو حمدي الحكيم، لولا صدقي"، ومن الرجال: "فريد شوقي، محمود المليجي، زكي رستم، استيفان روستي، عبد العزيز خليل".
غير أن طبيعة القصص السينمائية المعروضة ومساحة الصراع الدائر بداخلها، وقوانين الرقابة، والظروف السياسية، وكذا مشاكل الواقع المصري، والحراك الاجتماعي، كلها قد لعبت دورًا هامًّا في تشكيل مجريات الأمور داخل بلاتوهات السينما المصرية. وسوف نلاحظ أن شخصيات الشرير ونوعيات السلوك العدواني الذي تمارسه، يتأرجح بندوليًّا من حيث حجم الشر ونوعية وطريقة السلوك، تبعًا للمناخ السائد في المجتمع.
وهي في أفلام الأربعينيات تدور داخل نطاق ضيق ومجالات محددة. والشرير في أفلام تلك الفترة، نراه دائمًا أبدًا إما رئيسّا في عصابة أو عضوًا بها، أو بلا وظيفة محددة، وهي عصابة هشة، رغم أنها تتاجر في المخدرات، أو تعمل على تهريبها (فيلم قطار الليل)، أو هي تزوِّر العملة، أو هي تشكيل عصابيّ بلا نشاط محدد (فيلم قلبي دليلي).
وبات مألوفًا لدى المشاهد رؤية أفراد العصابة داخل وكرهم التقليديّ الذي يذخر بالكثير من البراميل الفارغة، وإطارات السيارات، وبعض الصناديق الفارغة، وأكوام من قش الأرز، وكلها أشياء لا نفهم سر تواجدها داخل ذلك الوكر الكرتونيّ، وإن كنا ندرك بعد قليل أن الفائدة الوحيدة منها هي خدمة مشاهد الحركة والصدام بين البطل الخيِّر وأفراد العصابة، والذي يتهاون تحت قبضته الفولاذية بعد أن اقتحم عليهم خلوتهم أو مكمنهم الحصين لحظة لعبهم الورق أو احتسائهم الخمر.
ولأن مناخ الأربعينات في مصر كان أشبه بالبحر الذاخر بكل أنواع الحركة السياسية والوطنية، فإن أصحاب المصالح من ممثلي القوى الاجتماعية السائدة في تلك الفترة كانوا يدركون أهمية السينما في قدرتها السهلة على مخاطبة الجماهير الواسعة، وسحرها الغامض في التأثير على جموع المشاهدين.
ولقد كانت تلك القوى تزكي من اشتعال الصراع داخل شريط الفيلم فقط! طالما أن النهاية، والمعروفة سلفًا، هي انتصار الخير على الشر. وحيث نرى البطل دائمًا في لقطة النهاية وقد تأبَّط ذراع البطلة وسط كومة من الحِسان والراقصات، وحيث يأتي صوت مغنية تردد مقاطع تلك الأغنية الأبدية: "اتمخطري يا حلوة يا زينة.. يا وردة من جوه جنينة".
والإحصائية التالية توضح طبيعة ونوعية الصراع الذي يدور داخل الفيلم المصري خلال موسم (1945 – 1946):
عدد الأفلام موضوع الفيلم
9 فتيات تم التغرير بهن
4 حوادث اغتصاب
3 خيانات زوجية
3 حوادث انتحار
2 محاولات انتحار
2 حالات جنون
هذا العدد (23) من أشرطة السينما يمثل نسبة 44% من مجموع الإنتاج السينمائيّ، حيث كانت جملة ما أنتجته أستوديوهات القاهرة في ذلك العام هو 52 فيلمًا فقط.
ورغم النمو الواضح في جملة الأفلام الممثلة لنوعيات السلوك العدواني حتى صار بعضها محفوظًا لدى المشاهد من قبل ذهابه إلى دور العرض. فإن الأغلبية الساحقة من الأفلام المصرية لم تحاول الاقتراب من تخوم الواقع أو أحداث الناس اليومية، بل كان هناك أثر للسينما الهوليودية على تركيبة الفيلم المصري، وإن كان هذا يجرنا إلى حديث آخر يمكن مناقشته على حدة.
وليس معنى ذلك تجاهل قلة محدودة من الأفلام حاولت أن تتعرض بإخلاص لبعض مشكلات الحياة المصرية. والاحصائية التالية تلقي بعضًا من الضوء على طبيعة سوق الفيلم المصري الذي خلق ذوقًا ونمطًا استهلاكيًّا لدى جمهوره، ليس فقط من خلال رموز الخير والطيبة، ولكن من خلال تكريس البطل الشرير أيضًا؛ ففي خلال عاميّ 1945 و 1946، يقوم محمود المليجي وحده بأداء عشرة أدوار على النحو التالي:
عدد الأفلام نوعية دور الشرير
1 شرير يستسلم لإغراء زوجة صديقه
1 شرير محتال، يبتز الأموال
1 الابن البكر لأحد الباشوات، تخدعه زوجته مع أخيه
1 ممثل شرير يقتل زميله بسبب الغيرة
1 محتال يغرر بالفتيات
1 ابن باشا يحاول قتل أخته بسبب الطمع
1 زعيم لعصابة من المجرمين
1 أرستقراطي يغرر بفتاة ثم يقتلها
1 شرير يحاول ابتزاز صديقه
وعلى الصعيد آخر، كان الإنتاج الأدبيّ والروائي أكثر تفاعلًا وانسجامًا مع ما كان يموج به الشارع السياسيّ آنذاك. وسوف نجد مفكرًا مثل "طه حسين" يُضمِّن أعماله نداءات التحذير المستمرة من الخطر الداهم والمنذِر بالكارثة، نتيجة الفوارق الاجتماعية الكبيرة. وسوف نرى بعضًا من أعماله تعتمد النهايات العنيفة والدموية؛ فهو يكتب "دعاء الكروان"،
ومن قبلها "شجرة البؤس"، ثم يدفع للمطبعة بكتابه الفذ الذي صادرته السلطات آنذاك: "المعذبون في الأرض". وهو في كل ذلك كان يواكب ما كانت تموج به مصر من غليان شعبي جارف بعد إقالة وزارة الوفد في أكتوبر عام 1944.
وكان الاعتداء على الدستور يستمر ويتزايد، والغلاء يمسك بخناق الشعب، وتضيق فرص العمل أمام الناس، وتنتشر بينهم البطالة، وترتفع الأسعار بشكل جنونيّ، وكانت القوى الاجتماعية لا تجد لنفسها قنوات صحيحة للتعبير، فالأفواه مكممه في ظل الأحكام العرفية الجائرة، وأُعيد تقسيم الدوائر الانتخابية بهدف اسقاط مرشحي القوى الشعبية، ثم أجريت الانتخابات التي قاطعتها جموع المواطنين لعلمهم بتزييفها، كل ذلك جعل الشعب في حالة من السخط والتوتر.
والنص التالي يُفسِّر كثيرًا ما كانت عليه الأحوال في تلك الفترة "وتتضافر الأسباب لتشهد مصر من خلالها فترة عصيبة من فترات افتقاد الأمن والاستقرار، وكان هناك من الاحباط النفسيّ الناتج من الفشل في تحقيق المطالب الوطنية" إلى أن يقول: "كان من المحتِّم أن ينعكس ذلك على الوزارة في تلك المرحلة.
وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى أن رئيسين من أربعة رؤساء للوزارة في تلك المرحلة قد اغتيلا: "أحمد ماهر" (24 فبراير 1945)، و"محمود فهمي النقراشي (28 ديسمبر 1948)، وأن وزارتين على الأقل من الوزارات الست في تلك المرحلة (النقراشي الأولى، وصدقي الثالثة قد استقالتا لأسباب تتعلق بالأمن).
وما إن توشك الخمسينات على الانتهاء حتى يفاجئنا المخرج "هنري بركات" بعمله المميز والمتقن معًا: "دعاء الكروان" (1959)، ثم يعود ليقدم شكلًا آخر من أشكال العنف في قالب الجريمة السياسية في فيلم "في بيتنا رجل"، والمأخوذ من وقائع حقيقية لأحداث اغتيال "أمين عثمان" وهروب القاتل حسين توفيق.
ثم يشارك "صلاح أبو سيف" بفيلمه الهام "بداية ونهاية" (1960)، والمأخوذ عن نص أدبيّ لـ"نجيب محفوظ"، حيث نرى كيف يُضَيِّق الفقر حصار حلقاته حول أسرة بسيطة توفي عائلها، غير أن المصير التعس كان بانتظار الجميع؛ فـ"حسن أبو الروس" الابن الأكبر، نراه قبل النهاية مصابًا بنزفٍ، مطاردًا من قِبَل الشرطة، و"حسنين" الذي ظن نفسه بمنجاة من الفقر بعد أن تخرج ضابطًا في الجيش، تطارده هو أيضًا الفضيحة والعار بعد سقوط أخته "نفيسة" التي كانت تمده دائمًا بالنقود، سواء من حرفة الحياكة أو عملها في النهاية كبغيّ، ولا يجد مكانًا للهرب سوى بالانتحار بعد أن يُصدِر حكم الإعدام على أخته المعذبة. وهكذا ينتهي الجميع إما إلى السجن، أو إلى الضياع والمجهول، أو الموت والقتل.
وتتواصل السلسلة، حيث يقوم "حسن الإمام" بتقديم فيلم "زقاق المدق" المأخوذ عن رواية "نجيب محفوظ"، ولها ذات النهاية الفاجعة، حيث يفقد "عباس الحلو" حياته على يد أحد جنود الاحتلال السُكارى. وتصل موجة الأفلام في تلك الفترة إلى مدى لم تبلغه من قبل، بفيلم "اللص والكلاب"، وهي نص أدبيّ مأخوذ لـ "نجيب محفوظ"، والذي يستحق منا دراسة تفصيلية لاستخدامه لرموز الشر والعنف في أعماله الروائية -سوف نطرحها للقارئ في غير هذه الدراسة- وفي فيلم "اللص والكلاب"، نرى نموذجًا للعنف والشر ممثلًا في "سعيد مهران".
والذي يُسرِع في أدائه "شكري سرحان"، غير أن ذلك الشر الذي يمثله لا يقرن وحجم الشر الذي كان يتهدده شخصيًّا أو يلتف حوله من ثنايا علاقته بالمجتمع، مع عدم تجاهله للظروف التي جعلت منه مُطارَدًا، بينما الآخرون ينعمون بالهدوء والثروة والاحترام. وهكذا تنتهي حياة "سعيد مهران" على ذلك النحو العنيف والمروع. وهي أحد الأعمال الروائية القليلة التي تحاول أن تعود بالعنف لأسبابه الحقيقية، وإن كان يسبق ذلك الفيلم، عمل آخر أقل تألقًا هو "جعلوني مجرمًا" من إخراج "عاطف سالم".
سادسًا: السينما واستثمارات العنف
عندما يهدر العمل الفنيّ كل القيم والمعايير الجمالية والفنية تحت وطأة ظروف الإنتاج أو أي ظروف أخرى كما يحدث الآن في السينما المصرية، فإن تلك الأفلام لا يتم تفريغها من محتواها الفكريّ أو التعليميّ فقط، لكنها أيضًا تفقد في المقام الأول شرط وجودها الفني كعمل إبداعيّ، وتصبح شيئًا آخر، ثم تفقد وظيفتها النفسية في التأثير على جمهور المشاهدين.
وهي أعجز إذًا من أن تثير فينا أي قدر من الشفقة أو الخوف، ولا نستطيع أن نمارس من خلالها حالة التطهير واستعادة التوازن. ونحن لا نملك أي قدر من الشفقة أو التعاطف مع شخوصها، بل نتابعهم في لحظة جمود ممتد عبر شريط الفيلم وعلى مسافة من التباعد لا تتيح لنا أدنى عاطفة أو تقدير وتفهُّم لمواقفهم أو مشكلاتهم.
وحتى يحقق أصحاب تلك الأشرطة السينمائية أكبر عائد ربحي في دورة رأس المال، فهم يمسكون بخناق المتفرج، ثم يغرقونه في بحر من الأحداث الوهمية، فهم يغدقون عليه بلا رقيب أو حسيب جنسًا أو عريًا في اللفظ والصورة، لكن أخطر تلك المنح المجانَّية على عقل ووجدان المشاهد، هي تلك الأحداث العنيفة والمتلاحقة.
والتي تُحشَد أمام بصر المتفرج لكي تشده إلى كرسيه في قاعة العرض، وحبس أنفاسه. ومع ذلك الطوفان الكاسح من العنف والمجازر ("دائرة الانتقام"، "الغول"، "حب في الزنزانة"، "الذئاب"، "أرزاق يا دنيا"، "الشيطان يعظ"، "ولا من شاف ولا من دري"، "السلخانة"، "أسوار المدابغ")، وغيرها من أفلام عقد السبعينات والسنوات الأولى من الثمانينات، وإذا جاز لنا أن نصف تلك الأنهار الدموية من العنف والجريمة بصفة محددة، فهي تجري بلا هدف أو نظام.
وكما يكون الطوفان كاسحًا بغير رحمة، فهي كذلك أحداث بلا مبرر أو سبب معقول يخوضها بطل هو في الأصل طيب وخيِّر، يبحث عن المأوى والخلاص والمرفأ الأمين، فنجده ينزلق إلى مهاوي الجريمة والعنف ("حتى لا يطير الدخان"، "الغول").
وأعمال كهذه لا تحقق لمتفرجيها أي قدر من ترفيه الفكر والمشاعر والسلوك، وأنى يكون ذلك، وبطلهم الخيِّر نراه قد سلك طريق البطل الشرير، كما أنها أفلام تضيف لخبرات المتفرج الإنسانية أي شيء، اللهم إلا دروسًا حمقاء في الجريمة والعدوان. ونستطيع الآن أن نرصد الملامح الأساسية لتلك الأفلام على النحو الآتي:
1- عنف مبالغ فيه وخروج على المألوف في تنفيذ مشاهد العنف (بروز الأمعاء وانبثاق الدم كما في فيلم "أرزاق يا دنيا" و"حب في الزنزانة").
2- كل الصراعات التي تدور بين أطراف الفيلم، تحمسها في النهاية مجموعة من طلقات الرصاص أو نصل سكين حاد (أفلام "مرزوقة"، "الغول"، "ولا من شاف ولا من دري").
وهكذا يتدخل أصحاب الشريط السينمائيّ لإنهاء السياق في الفيلم بتلك النهاية الفاجعة.
3- يتم تصفية كل الشخصيات الشريرة قبل أن يُتاح لها الدفاع عن نفسها أو التحقق من مدى سقوطها. وكل هذه التصفيات الفجائية، تتم على نحو مروع.
4- جميع هذه الأفلام تدور في نطاق ما يمكن تسميته تجاوزًا بالعنف الاجتماعي الشكليّ فقط، دون تعمق في أسباب الظاهرة، بل إن بعض تلك الأفلام تحاول تغليف ذلك العنف بمظهر خادع ومراوغ، حتى تبدو وكأنها من أفلام العنف السياسيّ. وفي هذه النقطة بالذات، علينا أن نقرر أن ذلك الخداع الذي يحاول به الفيلم اكتساب بُعدًا فكريًّا أكثر مما يستحق، ربما كان هو نفسه الذي يكشف لنا -دون قصد- ليس فقط سوء نية أصحاب الفيلم، بل ربما سطحية كاتب السيناريو! فلا يكفي أن يقول أحد أبطال الفيلم شيئًا حول الجبنة الفاسدة أو فراخ الجمعية لكي يصبح الفيلم سياسيًّا.
5- جميع هذه الأفلام تتجاهل الواقع الاجتماعي في أغلب الأحوال، أو تقف صامتة في كل الأحوال، ثم هي تُضيِّق الهامش النسبيّ الذي يفصل الخير عن الشر، حتى بات كل منهما مختلطًا بالآخر.
6- التركيز على نمط البطل السينمائيّ الفرد، الذي يقود الصراع وحده عبر الفيلم، وهو بطل من نوعية شديدة الخصوصية.
ومن هنا لا بد أن نفرق جيدًا بين نوع من الأفلام يكون فيه العنف والسلوك العدوانيّ جزءًا أصيلًا من نسيج الدراما السينمائية، ونوعية أخرى من أشرطة السينما يكون العنف فيها مجرد هبة مجانيَّة تُمنَح للمشاهد لكي يواصل جلوسه على كرسي العرض السينمائيّ، حيث يكون العنف في الأولى صيحة تنبيه وتحذير، بينما يكون في الثانية جرعة من التخدير.