فاضل الأسود
مجلة القاهرة
رقم العدد : 62
تاريخ الإصدار : 15 أغسطس 1986
صفحة 85
دونما أدنى حاجة لأجهزة قياس الرأي، وبغير انتظار لنتائج أي استفتاء، لو صَحَّت نتائجه فإن عادل إمام هو النجم الأثير لدى غالبية الجمهور.
ولا يقتصر ذلك فقط على جمهوره من مشاهدي الأفلام السينمائية داخل دور العرض التجاري، ولا حتى أولئك الذين فقدوا فرصتهم حاليًا -وربما إلى الأبد- في الذهاب لدار العرض السينمائي من أجل متعة مشاهدة الفيلم في مكانه الطبيعي فوق الشاشة العريضة لأسباب عديدة ليس هنا مجال مناقشتها، لكنهم قنعوا الآن بمتعة مشاهدة نجمهم المفضل بواسطة العروض المنزلية من خلال أشرطة الفيديو. بل إن جماهير عادل إمام تتسع كي تشمل أولئك الذين لم يمتلكوا أجهزة فيديو حتى الآن، وينتظرون شوقًا أن يجود عليهم جهاز التليفزيون بمسلسل يكون فيه "عادل إمام" هو بطل الأحداث ومحور الدراما.
لم تبرز شهرة "عادل إمام" هكذا بين عشية وضحاها، ولكنها ترتكز على مجهودات طويلة من خلال العديد من الأعمال الفنية التي قام ببطولتها، ابتداء من المسرح، إلى التليفزيون، ثم السينما. ولا يجب أن ننسى أدواره القليلة في بعض مسلسلات الراديو. ومن فوق كل تلك الأشياء، فإن شهرة ذلك النجم بين جماهير المشاهدين، بُنيت على موهبة أصيلة لامعة تذكرك بعمالقة التمثيل، والذين من فرط قدراتهم على الأداء نشعر أنهم لا يمثلون.
إن حساسية "عادل إمام" في الأداء التمثيليّ وبساطة الطريقة التي يبدو عليها أثناء تمثيله لأدوار تجعل من المشاهد راغبًا في تصديقه. لكن أخطر أرصدته على الإطلاق، والتي تختصر مسافة البعد بينه وبين الجمهور، بل وتجعله متواجد بشكل حميم مع المشاهد وفي صحبته دون عوائق، هي ملامح وجهه البسيطة، وخطوطها الحادة التي تحمل بشرة لوحتها الشمس، وجبهة عريضة تحمل بعضًا من الإرهاق، يقربه بضربة واحدة من تلك المساحة الواسعة والكثيفة من جمهور هو أيضًا يعاني من ذلك الإرهاق في سعيه اليومي في العمل، والبحث عن لقمة العيش، والتكدس داخل وسائل المواصلات، وطوابير المجمعات الاستهلاكية.
وهو لا يكف عن ارتداء ملابس لا تخرج عن البنطلون الجينز، وفانلة بسيطة يمكنك شرائها مثلها من أي محل رخيص الأسعار تجد مثيله في أي مكان. خلاصة القول، أنك لو تلفَّت قليلًا ودقَّقت البصر فيمن يمشون بجوارك في الشارع، فإنك حتمًا سوف تجد واحدًا أو أكثر هم "عادل إمام"، وأنك لا بد أن تعثر عليه بين أفراد عائلتك وأصدقائك، وربما يطالعك وجهه الحزين في قليل من الابتسام يومًا وأنت تنظر إلى المرآة وأنت تحلق ذقنك في الصباح.
كما أن نشأة "عادل إمام" داخل أسرة بسيطة تسكن حيًّا شعبيًّا، جعلته يلمس باقتدار شخصية ابن البلد البسيط (الجدع والفهلوي واللي في قلبه على لسانه)، هكذا تقترب شخصيته منا، وتتسلل إلينا، وتنصهر بداخلنا، ونتوحد معها.
وإذا كان النجاح الجماهيريّ الكاسح الذي حققه من خلال أول أفلامه "رجب فوق صفيح ساخن" قد دفعه إلى مزيد من الشهرة والنجاح، جعلت منتجي الأفلام السينمائية في مصر يدفعون به فورًا من تلك الأدوار الثانوية والبسيطة -رغم أن شهرته كممثل مسرحي كانت أسبق- إلى أدوار البطولة دفعة واحدة. ومن يومها صار هو النجم الأول بلا منازع، حطم المقاييس، وفاق كل التوقعات، وتصاعد أجره بسرعة الصاروخ.
ورغم كل المحاولات التي بُذِلَت سرًا أو جهرًا لتحطيم صورته من خلال خلق نجوم بديلة يمكن أن تنافسه أو تحل محله، إلا أن تلك المحاولات جميعها لم يُكتَب لها أي قدر من النجاح؛ فلقد فات على الجميع أن يدرِكوا أن "عادل إمام" قد تخطى مرحلة النجومية وفارق نطاق الجاذبية الأرضية التي تربطه بعوالم نجوم السينما والمسرح.
لقد تحول من مجرد نجم سينمائي يخضع لكل قواعد اللعبة السينمائية من نص وممثل ومخرج وموزع ومنتج، إلى عالم آخر له قانونه الخاص، فلقد أصبح بطلًا ولم يعد نجمًا يمكن تحجيمه بالضغط على بعض الأزرار فيتوقف هنا، أو يشار إليه فينطلق هناك.
إن استمرارية القيمة الفنية والنجاح الجماهيري يعود لمكانة "عادل إمام" داخل عقل وقلب المشاهد، وباستقلال كامل عن أجهزة التوجيه أو حملات الإعلام. إن ذلك الاقتراب الحميم من عقل ومشاعر المتفرج، هو الذي جعله البطل المفضل للجميع، وهو يخوض معاركه ضد أعدائه بالفيلم بتفويض ومباركة ذلك الجمهور، الذي رأى فيه مخلِّصًا جديدًا يمكن الركون إليه ولو خلال اللحظات القليلة التي يسترخي فيها على مقعد مريح ليتابع وقائع أي فيلم يقوم بتمثيله "عادل إمام".
ولقد ساهمت بعض الجهود السينمائية في إبراز تلك الصورة من خلال مشاهد الحركة والعنف التي تلقى رواجًا جماهيريا عريضًا.
وإذا كانت بداية نجاح أفلام "عادل إمام" تعود إلى القصة البسيطة التي تحكي عن ذلك الشخص البسيط القادم من عمق الريف، أو من أحراش المدينة وبقاعها العريضة عن الأضواء، ثم وقوعه في حبائل المخادعين والأفاقين من سكان المدينة، ثم بعد أن يعي ذلك الشخص البسيط الدرس، فهو يستطيع أن يقهر من ظلموه أو حاولوا خدائعه. وكل أفلام تلك الفترة كانت تدور في نطاق الفيلم الكوميدي لأن "عادل إمام" في الأساس ممثلًا كوميديًّا لا يُنافَس. وقد صار الدجاجة التي تبيض ذهبًا لمنتجي السينما المصرية، فهو ممثل بارع، ورصيده من الشهرة والنجاح يؤهله دائمًا ليكون مركز الثقل في السوق السينمائية.
صحيح أن بعضًا من أفلامه لم يُكتَب لها النجاح، وأصيبت بالسكتة القلبية في عروضها الأولى، لكن ذلك لم يؤثر على شعبية الفتى الذهبي؛ ذلك أن الجمهور الذي أحبه وتعاطف معه، استطاع أن يغفر له بعض تلك الأفلام الفاشلة، لأن الجمهور لم يعد يرى فيه النجم السينمائي فقط، بل اختاره بطلًا يؤدي بدلًا عنه كل الأدوار ويحقق له كل الأحلام. رغم أن الجمهور نفسه لم يصبر طويلًا عللا بعض ممثلي ونجوم الشاشة المصرية عندما وجد أنهم يضعون أفلامًا لا تعبر عنه ولا يستطيع أن يتوحد فيها مع أولئك الأبطال.
ولعل أقرب مثال لما نقول، هو فيلم عادل إمام الأخير "سلام يا صاحبي" من إخراج "نادر جلال"، فالبطل (عادل إمام) قد خرج من السجن بعد تمضية فترة سنتين، وعقب وشاية من "مشرقي" صاحب الخمَّارة، والبطل لا يعرف من الناس سوى ماسح أحذية (محمد متولي)، طيب القلب إلى حد السذاجة، لكنه مفتول العضلات، يمكن أن يؤدي بنجاح مشاهد الحركة ومعارك السلاح والالتحام إذا استدعته الضرورة.
وعندما يحاول البطل الانتقام من "مشرقي"، يتدخل شخصًا لا يرتبط بالبطل بأي قدر من المعرفة (سعيد صالح)، وبعد معركة قصيرة يخوضاها سويًّا، ينطلقان فوق دراجة بخارية مسروقة، ثم يندفعان هربًا من الشرطة إلى النيل، فتغرق الدراجة، ويسبحان إلى الشاطئ الآخر، وهكذا تنشأ خيوط تلك الصداقة بين صاحبين، لم يكن أحد منهما حتى انتهاء تلك المطاردة يُدرِك حتى اسم الآخر، وتنمو الأحداث بينهما لتزيد من عُرَى الصداقة، وأيضًا ليتزايد رصيدهما في البنوك، ليصبحان من نجوم التجارة والمال، وكلما تعرضا لأي مشكلة، فهما قادران على التغلب عليها بالمال أو الجنس أو الخداع أو استخدام القوة.
الصاحبان (عادل وسعيد) لا يواجهان فردًا واحدًا في العادة، ولكنهما يواجهان شبكة مُحكمة من نظام فاسد يساند أفراده من تجار السوق السوداء، ومهربي السيارات والمخدرات. وعندما تفلح تلك المنظمة في اغتيال "سعيد صالح"، لا يجد من كلمات سوى أن دمه في رقبة صديقه (عادل إمام)، وهكذا تصبح قيمة الوفاء، وهي أحد القيم الأصيلة في وجدان المصري معادلًا للموت أو الانتقام.
صحيح أن وجدان المصريين قد أفرز عشرات من الحكم والمواعظ حول حق الصديق وحقوق الجار وقيمة الصداقة، وهناك بضعة أمثال، يورد "عثمان جلال" في كتابه "العيون اليواقظ" حول تلك الخصلة الحميدة في علاقة الصديق بصديقه، وفي ذات السياق يورد "أحمد تيمور" باشا العديد من الأمثلة في كتابه "الأمثال العامية"، لكن كل تلك الأمثال لا نجد فيها من قريب أو بعيد ما يحض على الانتقام أو إسالة الدم أنهارًا، فعقب وفاة "سعيد صالح" ينطلق "عادل إمام" لكي يقضي على الجميع، ويتحول الصديق البسيط إلى إعصار مدمر يحيل الكون من حوله إلى حرائق ورصاص وموت، ولا ينجو من انتقامه أحدًا.
إن الخطورة الحقيقية التي يمكن أن يقع فيها المشاهد، والذي يقف بالساعات أمام دار العرض حتى يستطيع أن يحجز مكانًا داخل دار السينما هو أن يتصور أن الطريقة المُثلى في إزاحة المشكلات هي تلك الأنهار من الدمار وعواصف الخراب والحرائق. لكن تأتي المصيبة الكبرى، لو أحس المشاهد عقب خروجه من دار العرض بالراحة، وتَنَعُّم بالسكينة وهدوء البال، إذ يحس أن بطله "عادل إمام" قد فعل من أجله كل شيء، وأنه باسمه قد أنزل بالأشرار الهزيمة الساحقة، وأنه أخيرًا يهدي ذلك الانتصار على كل قوى الشر إلى المشاهد البسيط المطحون تمامًا مثل بطله.