2021
نشر المقال فى مجلة فنون العدد 42 فى أغسطس 2021
منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ونتيجة للطبيعة الكزموبوليتانية لمصر، حيث كانت تستوطنها جنسيات مختلفة، أتت بثقافاتها المتنوعة، فأثرت المجتمع، ونتيجة للإطلاع على الثقافات الغربية نتيجة البعثات العلمية، ثم انشاء جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) عام 1908، وكلية الفنون الجميلة في العام نفسه، وبداية تعليم المرأة واقتحامها للمجال العام، بدأ عصرًا تنويريًّا، فظهرت الفنون بشكل رائد تدعم وتساند الحركة النسوية، فكان صالون مي زيادة 1913.
ثم كان أول ظهو للحركة النسوية من خلال عشرة مطالب صاغتها ملك حفني ناصف وطرحتها على النساء ضمن محاضرة ألقتها بحزب الأمة وتم نشرها بصحيفة "الجريدة" التي كان يصدرها أحمد لطفي السيد، وتم إعادة نشرها في كتابها "النسائيات"، وقد ركزت تلك المطالب على الحق في التعليم، وحقوق النساء في إطار الزواج.
وحين تأسست اللجنة الوطنية للطلبة والعمال سنة 1946 في سياق انتفاضة الشعب المصري ضد الإحتلال البريطانيّ ضمت اللجنة في عضويتها الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون والكاتبة لطيفة الزيات التي انتخبت كرئيسة للجنة لتواصل النساء المصريات رحلتهن نحو دمج مطالب تحرر الوطن بتحرر النساء.
ومنذ تلك الحقبة، ومنذ بداية ظهور الحركة النسوية، كان هناك من يناهض حقوق المرأة ويعارض حريتها (رجالًا ونساءً)، فحين أصدر قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة" (1899)، أسرعت عائشة التيمورية -وهي الشاعرة والأديبة- بكتابة المقال تلو الآخر في جريدة "الآداب" و"المؤيد" تنتقد دعوته للسفور! وفي عام 1908، وصف الرافعي المرأة في كتابه "السحاب الأحمر" بأنها حية سامة، وشر، وشؤم، وكاذبة، وبلا عقل.
وفي عام 1923 أسّست هدى شعراوي "الاتحاد النسائيّ المصريّ"، وفي مقابل الأصداء الواسعة التي حققتها حركتها النسوية، أسّس حسن البنّا، في 1933، جناحًا للأخوات داخل تنظيم الإخوان المسلمين، أسماه "فرقة الأخوات المسلمات"، بهدف التصدّي لحركة هدى شعراوي التحرريّة.
أما عن العقاد، ففي كتابه "المرأة في القرآن" (1959)، رأى أن القرآن قد حكم بأفضلية الرجل على المرأة، وأن هذا هو الحكم البيِّن، وأن تفضيله عليها مطلق. أما الكتابان الآخران، اتكأَ على أحاديث مثل "ناقصات عقل ودين"؛ فكتابه "الإنسان الثاني" والذي يرمز فيه العنوان إلى المرأة ككائن من الدرجة الثانية، واصمًا إياها بالنقص العقليّ والضعف الجسديّ، كما يراها تافهة وسطحية، وأن الإلتفاف نحوها ما هو إلا رغبة وشهوة وطمع بها. أما في "هذه الشجرة"، فينطلق كذلك من الدين كنقطة بداية ليصوغ نظرته للمرأة، وليس أدل من العنوان المقتبس من الآية القرآنية "لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" فيتحدث عن أن ضعف البنية، استعاضت عنه المرأة بالدهاء والخبث والمكر والخديعة، مستخلصًا من قصة آدم وحواء مع شجرة الخُلد المحرَّمة، أن المرأة كائن عنيد مُولع بالممنوع وحب الاستطلاع، وأنها هي التي أغوت زوجها (الرجل) بالأكل من الشجرة (مع العلم أن هذه هي الرواية المسيحية، والقرآن كان واضحًا حينما قال: "فوسوس لهما الشيطان"). كما نعت العقاد أدب إحسان عبد القدوس النسوي بـ"أدب الفراش"!
لكن، وعلى الرغم من محاولات المقاومة الفنية والأدبية للنسوية، لم ييأس أو يلين الجانب الفني والأدبي الآخر، فظل إحسان عبد القدوس صوتًا للمرأة، بقدرته الفذة على تجسيد أشكالها المختلفة، ونفسيتها وأفكارها ومشكلاتها، مُّجَسِّدًا في رواياته وقصصه المرأة التي تستطيع بقوة عزيمتها وشخصيتها هزيمة العادات والموروث. وأطلت لطيفة الزيات -التي أولت إهتمامًا خاصًا لشؤون المرأة وقضاياها- بروايتها "الباب المفتوح" (1960).
كانت رمانة الميزان في ذلك الصراع، السلطة وإرادتها العليا في مواجهة ذلك الجانب الظلامي، فقد أحاطت المثقفين والفنانين بالدعم والإهتمام والتقدير. فمثلًا حينما نشر سيد قطب مقالتين في مجلة الرسالة، واحدة بعنوان "أدب الإنحلال"، والثانية بعنوان "أخرسوا هذه الأصوات الدنسة" (1952) مطالبًا بمحاكمة الكتاب والشعراء والمطربين لأنهم من العهد البائد (الملكية)، لم تستجب له السلطة، فمرت المقالتين (وغيرهما) وكأنهما لم تُنشرا. وفي عام 1961، ولأنها شعرت بمدى أهمية وتأثير فرقة رضا، ضمتها إلى الدولة، وزادت من أعداد الأعضاء والعازفين، وجعلتها تقدم عروضها أمام الرؤساء والملوك، وفي عام 1965، توجه عدد من نواب مجلس الأمة بسؤال إلى وزير الثقافة، للمطالبة بمنع رواية «أنف وثلاث عيون»، بدعوى حثها على نشر الإباحية في المجتمع، وطالب أحدهم بمحاكمة إحسان. لكن توقفت القصة عند هذا الحد.
حرصت سلطة ما بعد 1952، على احتكار القضايا النسوية، مشرفة وراعية للنشاط النسوي، وقد حرص النظام الناصري على تقديمه كجزء من برنامج الدولة الاجتماعي والسياسي والشعبيّ آنذاك (بالمنطق السياسي الشمولي)، مع التركيز على أوضاع النساء في القانون، ففي عام 1956 تم تأسيس التنظيم النسائي بالاتحاد القومي، ثم الإتحاد الإشتراكي، وقد ضمن دستور ذلك العام حق الترشح والانتخاب للنساء، وتعديل قوانين العمل والتعليم بما يحقق المساواة بين الجنسين.
ثم أطلَّت حقبة السبعينات بقيادة السادات مستجلبًا الوهابية، ومطلقًا لسراح الإخوان من سجون ناصر، فشهدت مصر تغيرًا واضحا في اتجاهات العمل بوزارة الثقافة، فمن ناحية غلب الميل باتجاه الإعلام على حساب الثقافة، ومن ناحية أخرى اتسعت الفجوة بين قطاع من النخبة المثقفة ومؤسسات الدولة الثقافية، حيث تم تدريجيًّا استبعاد المبدعين والمثقفين المنتمين لليسار بمختلف اتجاهاته من مؤسسات الوزارة منذ مايو 1971، وفي نفس الوقت تراجع دور الدولة في العمل الثقافي لتنتهي تلك المرحلة بإلغاء وزارة الثقافة ليحل محلها المجلس الأعلى للثقافة.
وظهر التيار الديني بقوة، فارضًا وجوده، فتم استصدار قانون من مجلس الشعب بمنع عرض الرقص الشرقي على شاشات التليفزيون المصري، الذي كان حتّى أوائل السبعينيات يقدم استعراضات للرقص الشرقيّ، وفي برنامج مثل قطار المنوعات، كانت هناك فقرة لسهير زكي ترقص فيها أمام الشاشة لمدة تتجاوز الدقائق الخمس، أي كان ينظر إلى الرقص باعتباره فنًا وليس عيبًا أو حرامًا. ومُنِع "الموديل العاري" بضغط من الطلبة والأساتذة الإخوان، بعد أن استمر العمل به منذ عام 1908 وحتى 1973، وسجنت نوال السعداوي التي تعد حركة نسوية بحد ذاتها!
إذًا نحن هنا أمام تغير مفصلي لوجه مصر الحضاريّ والثقافيّ والفكريّ. وكأن بداية السبعينات مرحلة فاصلة بين نمطين من التفكير، وشكلين للمجتمع، الصوت الأعلى فيه للمتأسلمين وليس للفن، لذا كان جرس الإنذار الذي أطلقه صلاح جاهين بفيلمه "خلي بالك من زوزو" (1972)، محذرًا من الهاوية التي ننحدر إليها، فأثار فكرة المد الدينيّ في الجامعات، وتشدُّد شريحة الشباب، ورؤية المجتمع للراقصة وكأنها الوجه الآخر للعاهرة.
وإذا مددنا خط التشدد الذي انخرط فيه المجتمع على استقامته، بدعم كامل من الدولة التي غضت الطرف عن الإسلاميين، مهملة قضايا المرأة التي انسحقت بفضل فتاواهم، فنستطيع أن نرى بشكل واضح ما وصلت إليه القضية النسوية، ففي عهد مبارك، دفعت نوال السعداوي ثمنًا باهظًا لنشاطها النسويّ، فرُفعت العديد من القضايا ضدها من قبل الإسلاميين، مثل قضية الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها، ووُجهت لها تهمة ازدراء الأديان، كما وُضع اسمها على ما وُصفت بـ "قائمة الموت للجماعات الإسلامية".
بعد كل ما سبق، من يجروء الآن على كتابة حوار مثل ذلك الذي دار بين البطل والبطلة في "الخيط الرفيع" دون أن يوصم بالكفر والعهر دون أن تطوله تهمة إزدراء الأديان؟ من يجروء الآن على كتابة "أنا حرة"، ومن يتحمس لتقديمه في السينما، وهو يتحدث عن حرية المرأة وحرية اختياراتها في الحياة؟ حتى في رواية -ومن بعدها فيلم- "أنف وثلاث عيون"، كان هناك إدانة واضحة للرجل الذي أصبحت المرأة ضحية استغلاله وأنانيته.
إن السباحة ضد التيار مكلفة للغاية، بداية من الاستهجان والهجوم الشعبوي أو النخبوي (وهذه هي الكارثة)، مرورًا بالاستدعاء للنيابة، والخضوع للمحكامات وربما للسجن بتهم مختلفة ومطاطة، نهاية بدفع الحياة ثمنًا. فمن يطمح في هكذا سيناريو؟
في فيلم تيمور وشفيقة (2007)، حينما واجهت الحبيبة حبيبها بخطأه، كان رده عليها: "يعنى الغلط مني؟ ماشي.. ده أسلوبي ومش هيتغير، وأنا شايف إنك غلطانة ولازم تعتذري، وتعتذري وإنتي حاسة بالندم من جواكي كمان، ويا قبلت اعتذارك يا مقبلتوش". في حين كان خطاب البطل لحبيبته في فيلم الباب المفتوح (1963) ما نصه: "أنا أحبك وأريد منك أن تحبيني، ولكني لا أريد منك أن تفني كيانك في كياني ولا في كيان أي أنسان. ولا أريد لك أن تستمدي ثقتك في نفسك وفي الحياة مني أو من أي أنسان. أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التي تنبعث من النفس لا من الآخرين. عندما يتحقق لك هذا لن يستطيع أحد أن يحطمك، لا أنا ولا أي مخلوق".
هنا تصدق مقولة: "إن أردت أن تحكم على مجتمع، أو تقيس مدى تخلفه أو تقدمه، فيكفيك أن تلقي نظرة على صورة المرأة في آدابه وفنونه".
وبين هذا الفيلم وذاك، كان هناك استثناء، أو فلنقل إنجازًا للفن الذي ينتصر للمرأة، فبسبب فيلم "أريد حلًا" (1975) تم إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية، وتم تغيير قانون بيت الطاعة.
لكني في الواقع، لا أستطيع الآن رصد أعمال أدبية تدعم النساء أو تتحدث عنهن وعن مشكلاتهن في المجتمع، والأعمال التي من الممكن إطلاق صفة النسوية عليها والتي تكتبها نساء، مغرقة في الذاتية. أما عن السينما فالأعمال التي عنيت بالنساء ضئيلة للغاية، ولا أذكر منها سوى أفلام "أحلى الأوقات" (2004)، و"احكي يا شهرزاد" (2009)، و"واحد صفر" (2009).
على جانب آخر، ولمزيد من رصد الردة المجتمعية، ففيلم "عمر وسلمى" بجزئيه (2007 و 2009)، والذي يقوم فيه تامر حسني بكل ما يمكن فعله لإهانة، والتقليل من شأن حبيبته، بالتحقير من كلامها والبصق عليها، ..الخ، حصد نجاحًا جماهيريًّا هائلًا واستحسانًا تامًّا من جمهوره الحاشد من المراهقين (الجيل الصاعد الذي سيحكم يومًا قريبًا).
من العجيب أن هناك من المخرجين الرجال من قدم المرأة بصور قوية، منصفة، مجسِّدا قضاياها مثل هنري بركات (إمبراطورية ميم مثالًا)، وسعيد مرزوق (أريد حلًا مثالًا)، ومحمد خان (زوجة رجل مهم مثالًا)، في حين فشلت نادية حمزة وإيناس الدغيدي في تقديم صور حقيقية عن المرأة، بل أرى أنهما قد شوهتا قضية المرأة بما قدمتاه من صور مبتذلة، تغازل غرائز الجمهور. لكن لا يجب أن ننسى مخرجاتان رائعتان قدمتا المرأة بصورة متعاطفة، معبرتان عن قضاياها بواقعية ورقة شديدة، هما كاملة أبو ذكري (فيلم واحد صفر مثالًا)، وهالة خليل (أحلى الأوقات مثالًا).
إن غالبية أشكال الفنون الآن لا تمس موروث، ولا تقترب من تابوه. إنها كتابات مهادنة، هادئة، لا تلقي حجرًا في البحيرة الراكدة، متجنبة الصدام المجتمعي، تدعم الهوى الجمعيّ، وبالتالي فهموم النساء في مجتمع ذكوري لا تعنيها من قريب أو بعيد. وهناك خلطة نجاح معروفة تحرص على كل ما سبق، بغض النظر عما يُقَدَّم من محتوى، تدعمها دور النشرالتي لا تهدف سوى للربح، وتخلي الدولة عن دورها الثقافي ودعمها للكتاب.
إن الكاتب والفنان، هو في النهاية إفرازًا لمجتمعه، وحينما ارتد المجتمع منذ بداية السبعينيات إلى الوراء، ردة فكرية وحضارية، وحينما تم تقليص الدين في مظهر المرأة، وأصبح الفقه لا يعني سوى بتقييدها وإعادتها إلى الوراء، كانت النتيجة أن أصبح هناك دور نشر إسلامية، وأدب إسلامي، وفن سينمائيّ "نظيف"، وفنانات محجبات.
إن الإرادة السياسية، وتقدير الدولة لدور الثقافة والمثقفين، ورغبتها الحقيقية في التطور، وعدم إنصياعها لذائقة شعبوية رجعية، أو لضغط مجتمعيّ يُعد في حد ذاته هزيمة للإنسانية والحرية والتقدم، هو الأساس والسند الحقيقي للقضية النسوية.
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص1
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص2
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص٣
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص٤
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص٥
صفحات من دفاتر سينما المرأة ص٦