بالفعل لم يكن التراث متاحاً للعامة مثل الآن، وأحسبه فكر الخاصة للخاصة ممن منحوا نعمة العقل وتفتح الفكر. أما الآن فمع السماوات المفتوحة وسهولة النشر، فكل شىء متاح ومجانى، وإن لم يراع الكاتب الظرف والضرورة وطريقة التعبير الأدبية عن الجنس (لأن فى النهاية ما يكتب هو أدب وليس شىء آخر)، إن أغفل على لسان من من الشخصيات تأتى اللغة الفجة والصريحة حد إنتزاع ورقة التوت، فهى حينما تأتى على لسان أحد من القاع فهذا شرط المصداقية والتوافق. وإن كان استخدام الجنس ليس لغرض سوى المبيعات والشهرة، فالوحيدين اللذين يملكا سلطة عقابة (إن جاز لنا التعبير) هو القارىء والناقد وليس أى أحد آخر. الأول بالتجاهل، والثانى بمقال نقدى يوفيه حقه من الإحتفاء أو الذم.
شىء آخر، لا نستطع أبداً الحكم على صفحة أو حتى بضعة صفحات مجتزئة من النص الكلى. فهذا لا علاقة له بالأدب، ولا يراعى أبسط قواعده. فحينما ينقد أحدهم كتاباً، يجب أن يقرأه كله، وبتمعن. وفى العموم، لا يجب إخضاع اى عمل فنى أو أدبى للدين أو الأخلاق، ففى الأولى، سوف نحرِّم كل شىء، ونحن بهذا نخضع عمل إنسانى لآخر إلهى، نضع الدنيوى الناقص (ليس هناك عمل كامل) أمام الأبدى الكامل، أما الثانية فمتغيرة بحسب المكان والحالة.
أقرأ الآن رواية لإبراهيم فرغلى اسمها (معبد أنامل الحرير) وتحكى عن (المتكتم) وهو الشخص الذى يتخيل نفسه الوصى الوحيد على الأخلاق والقيم، الذى أحرق الكتب وأودع اصحابها السجن وقتل بعضهم، وشيئاً فشيئا اختفت كل مظاهر الحياة، وأضحت "مدينة الظلام" بعد أن باتت جزيرة منعزلة عن العالم، والتزم الناس الصمت خوفاً، وهجرها الباقون، إما بالسفر خارجها أو بإبتداع حياة جديدة تحت الأرض. ورغم أن الطابع ربما يكون من نوع الفانتازيا، لكننى أشعر بالكوميديا السوداء تحيط بى من كل جهة، ولا استبعد – إذا استمرينا على هذا المنوال – أن نصبح تلك المدينة التخيلية.
الكتابة تفتح الآفاق وتنير الطرق المظلمة، أَثَر الكتاب والفلاسفة فى جموع الشعب الفرنسى، فثار على الحكم الطاغوتى، وكانت الثورة الفرنسية. أفكاراً كانت تنسب للخيال العلمى، حتى تحققت فى الواقع بالإكتشافات وجهد المخترعين.
القهر يحد من إبداع الكاتب، والكاتب إبداعه بلا سقف، ومع نمط الحياة التكنولوجى الحالى، ليس هناك محاذير، فسلطة الكاتب بلا حدود. والدولة التى ترفض عمل ما أو تسجن كاتبه، هى دولة خارج الزمن، تعيش بقوانين العصور الوسطى.
لقد ثار الأوروبيون على سلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش، على حرق الكتب وأصحابها، والآن التقديس لا لأحد سوى الإنسان، محور الكون، وأين نحن الآن منهم؟ أين موقعنا على خريطة العالم؟ لكن يبدو أنه كُتب على العرب المسلمون أن يحتقروا ويلعنوا ويقتلوا مفكريهم منذ القدم وحتى الآن.
هذه القوانين غير الدستورية تفتح الباب للمتأسلمين لقتل الكتاب كما حدث لفرج فودة، وكمثقفين، سوف ندافع عن حرية الفكر وسننتصر، وإن لم نفعل سيكون دورى غداً، ودورك بعد غد.
هوامش :
أحمد ناجى : كاتب وصحفي مصري، يعمل في مجال الصحافة الثقافية منذ 2004. صدر له روايتان، روجرز (2007) واستخدام الحياة (2014). ثارت حوله ضجة كبيرة عام 2016 بعد محاكمته عن روايته "استخدام الحياة" بعد اتهامه بخدش الحياة وصدور حكم بسجنه لمدة سنتين.