1- لماذا لا نجد مبدعة في أهمية رضوى الأسود، مدعوة في كل هذه الفعاليات الثقافية التي تقيمها وزارة الثقافة بشكل دائم؟ هل هو ازدحام الساحة الثقافية، أم انشغالك بمسئولياتك؟
في الحقيقة أنا لست مدعوة لا في فعليات وزارة الثقافة ولا في غيرها، ويعود ذلك إلى مشكلة أعاني منها بشكل شخصيّ، وتكمن في الخجل الشديد الذي يصل أحيانًا إلى حد الانطواء والتقوقع، بالإضافة إلى تحسسي من الأضواء والمقابلات وغيرها، أعلم أن هذا قد يتعارض تمامًا مع شخصيتي الفيسبوكية، لكنها الحقيقة. لذا حبستني هذه الشخصية في دائرة مغلقة لا أخرج عنها، ولذا ليس لدي "شلة" ولا شبكة علاقات تساهم وتدعم ظهوري و"تدعوني" لتلك الفعاليات.
أعلم أن هذا قد يكون ضد مستجدات المرحلة الآنية التي تتطلب التواجد الإعلامي المكثَّف للكاتب، والإلحاح الدائم على القارىء بتكرار الظهور في الفعاليات الثقافية والمناقشات والتوقيعات وغيرها. لكنني أعمل في الظل، بلا ضجيج، وأؤمن بأن العمل الجيد هو ما سيفرض نفسه على المشهد الثقافي، وأن الكاتب الجيد هو الأبقى في تاريخ الأدب. أرى أن ما أقدمه هو ما يهم، وليس تواجدي في تلك الاحتفاليات. نصوصي وأبحاثي وفلسفتي هي ما ستبقى في النهاية، وهي ما ستتحدث عني.
كما أن هناك نقطة أخرى مهمة، هي أنني أتجنب الحديث عن أعمالي وتفنيدها وشرحها، وأفضل تركها للتأويلات المتعددة، فليس كل ما نكتبه قابل لحديثنا عنه، فهناك ما يُحَس ولا يقال، وهناك ما هو وليد لحظته، وهناك ما هو نتاج اللا وعي الذي لا ندري نحن ككتاب عنه شيئًا. كما أن الحَجْر على مُخيلة القارىء هو في الواقع أكبر إهانة له ولذكائه.
2- تبدين حريصة بشدة على إبداء آراء نقدية في الكثير من القضايا والأعمال الدرامية، هل تنوين كتابة السيناريو أو تقديم كتاب نقدي متخصص في السينما؟
أنا متأثرة جدًا بالسينما، حد أنني أكتب رواياتي بحس سينمائي واضح، من انتقاء للكادرات وتقطيع المشاهد (المونتاج)، والفلاش باك، وغيرها. وقد ورثت حب السينما من أبي الباحث والسيناريست د. فاضل الأسود رحمه الله الذي كان يصطحبني معه لحضور عروض الأفلام، وخاصة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والتعرف إلى سينما مغايرة ومختلفة وإنسانية، سينما لا تنتمي إلى العم سام.
كتابة السيناريو حلم يراودني منذ سنوات، ولا أعلم ما يوقفني عن ممارسته حتى الآن. ربما لم يحن الأوان بعد. أما بالنسبة للآراء النقدية الخاصة بالأعمال السينمائية والدرامية، فأنا لم أمارس الكتابة النقدية السينمائية سوى في فيلم "رسائل البحر" وقد لاقى المقال نجاح غير مسبوق، لكنني لم أكرر التجربة لسبب مجهول، وبدلًا منها مارست الكتابة النقدية الأدبية (للروايات تحديدًا)، وأنشرها في أخبار الأدب وغيرها.
3- مع كل هذا الإهتمام والشغف بالتاريخ، وخاصة تاريخ مصر، لماذا لم تكتبي رواية تاريخية حتى الآن؟
التاريخ لديّ له مكانة ترادف العشق، وأنا هنا أتحدث عن التاريخ بكل أنواعه وحقباته، والتاريخ المصري القديم بشكل خاص له نصيب الأسد من ذلك العشق، قد يكون السبب هو هُيامي بمصر ذاتها.
ولقد كتبت بالفعل روايتان تاريخيتان، واحدة عام 2013، بعنوان "تشابُك"، صادرة عن "دار الكتاب العربي - بيروت" وهي عن التاريخ المصري القديم، وقد كتبت في الإهداء: "إلى مصر .. الأرض السوداء .. كيميت .. محبوبة الإله بتاح .. كم أنا مُلتعنة بعشقك". والثانية صدرت عام 2020، وهي بعنوان "بالأمس كنت ميتًا"، وتتحدث عن مذابح الأرمن عام 1915.
وللأسف رواية "تشابك" ظُلِمَت ظلمًا شديدًا، إذ لم يكن لها وجود فعلي منذ بداية نشرها، لا في مصر ولا في أي من معارض الكتاب العربية، لذا لم يقرأها أو حتى يسمع بها أحد، وأحد أحلامي هو أن أعيد طباعتها.
4- أعرف أنك ممن لا يهتمون بالكم وتتأني في الكتابة ولكن ألا تصابين بالغيرة أحيانًا من غزارة إنتاج بعض ممن يدَّعون الكتابة؟
يقولون أن المرأة تغار من المرأة، وأنا حتى على المستوى الشخصي وبرغم كوني امرأة لم أمسك نفسي -ولو لمرة واحدة- متلبسة بهذا الشعور، وقد انسحب ذلك على مستوى العمل؛ فواحدة لا تعير للظهور الإعلامي -برغم تأثيره الشديد- اهتمامًا، هل سيشغلها نجاحات الآخرين أو غزارة إنتاجهم؟! في الحقيقة، وبطول عمري كله، لا أنشغل سوى بذاتي، بتنمية وعيي وقراءاتي ومهاراتي الإبداعية.
القراءة بالنسبة للكاتب الحقيقي أهم بكثير من فعل الكتابة، التي يجب أن تأتي لاحقة، متأنية، مُحكمة، مُفارِقة، مُغايرة للسائد والمألوف، كي لا تُنسى ولا تمر مرور كثير من الأعمال التي ما إن ينتهي منها القارىء، حتى لا يعد يذكر اسمها أو عن أي شيء تتحدث! فهناك ما يطلق عليها مجازًا "روايات"، وهي لا تعدو كونها خواطر. وهناك من الروايات ما تُحدِث "فرقعة" وقتية سرعان ما يزول أثرها.
تلك النوعية في رأيي تولد ميته، لأنها تشبه جسد بلا روح، والروح هي الباقية. وهناك روايات "الموضة" وما يطلبه القراء، وكل تلك الأنواع -مع كامل الإحترام لها- ليست هدفي وليست ما أطمح إليه بكل تأكيد.
5- ما رأيك في بعض المقولات التي تؤكد تراجع الاهتمام بالرواية، وعودة القصة القصيرة للمشهد الإبداعي؟
القصة القصيرة فن من أذكى وأجمل الفنون، وأنا استمتع به كثيرًا، وأتوق للممارسته يومًا ما. لكن لا أعتقد في تلك المقولة، فنحن في زمن الرواية كما قال د. جابر عصفور رحمه الله. المقروئية ومؤشرات البيع والتناول النقدي هم ما يُقرونُّ بذلك، وليس أنا.
الرواية وجبة دسمة يذهب إليها القارىء بكل توق وشغف ورغبة حرة، لعلمه المسبق بأنه سيشاهد بداخلها أفلامًا، وسيقرأ شعرًا ونقدًا، وسيتعرف على فلسفات، وسيتأمل لوحات تشكيلية، وسينطلق في رحلات وأسفار، وسيعيش تجارب وأعمار تفوقه بكثير، والأهم ستجعله يفكر في العديد من الأشياء، وقد يعثر على حلول لمشاكله بتعديل طريقة تفكيره وتوسعة أفقه. إنها -في رأيي- المتعة الكاملة.
أعتقد أن الرواية امتلكت منذ البداية آليات تطوير ذاتية جعلت من الصعب أن ينافسها لون أدبي آخر. أما القصة القصيرة فهي نوع من الإبداع يعتمد على ذكاء وحرفية وسرعة بديهة الكاتب وقدرته على الاختزال والتكثيف، وفي المقابل يعتمد على متلقي ذكي ولمَّاح، فالقاص في عدة أسطر وربما عدة كلمات مُفتَرَض أن ينقل للقارىء في دفقة واحدة كتلة من المشاعر، أن يبدأ وينهي حكاية طويلة ومعقدة بعبارات أقرب للفلسفة والرمزية، هو بارع بلا شك كونه ناجحًا في قدرته على فعل ذلك.
لكننا نحن الروائيون، ثرثارون، والقارىء لأنه في النهاية من نسل آدم، فهو ينتمي تمامًا لتلك الثرثرة، يُناِسب طبيعته السرد المطوَّل عن الأحداث والمشاعر والأشخاص. القارىء يتطلع للقراءة عن الخيبات، كي يشعر أنه ليس وحيدًا، يريد من يشاركه الحزن والإخفاقات، ربما ليقول لنفسه أنا أوفر حظًا من البطل!
6- كيف استطعت التوفيق بين كتابتك وجموح المبدعين، وحياتك الأسرية؟
أمارس الكتابة في تلك الأوقات التي لا تستوجب ملازمتي لطفليّ، أقوم بها بعد أن أكون قد أنجزت كل المهام المفروضة عليّ، فأنا في النهاية أم تمارس مهام سيدة المنزل العادية من تنظيف وطهي وخلافه، أعتقد أنني لم أقصِّر في جانبي الأمومي أو الإبداعي، وإن كان هناك ثمَّ تقصير، فسيكون في الجانب الثاني وليس الأول. أحيانًا أهرب من مشكلاتي وأعبائي الأسرية بالكتابة، وأحيانًا كثيرة تنجح تلك الأعباء في توقيفي عن الكتابة.
7- ما الذي ينقص المؤسسات والجماعات الثقافية للوصول لكل الناس بالتنوير اللازم؟
المؤسسات والمثقفون بشكل عام يحدثون أنفسهم في غرف مغلقة، منهمكون في صراعات الشهرة والجوائز ولقمة العيش. ليس هناك مشاركة حقيقية وفاعلة في معالجة المشاكل المجتمعية أو صد الردة الثقافية والرجعية الدينية، ليس هناك تواجد أو حتى محاولة لحل تلك التحديات التي إن تفاقمت أكثر من ذلك، فسيكونون هم شخصيًّا في مرمى النيران، إن لم يكونوا أول الناس.
لكنني أجد في تجاهل الدولة لهم وتهميش دورهم كل العذر.
8- هل على المبدع أن يبذل جهدًا للوصول إلى القارىء أو للناس بشكل عام؟
المبدع لا يجب عليه سوى الاستمرار في دوره ومهمته التي خُلِقَ من أجلها. يستطيع أن يصل للناس بخطاب بلا تعقيد، وبإتاحة أعماله بعدة وسائط ؛ منها المسموعة، ومنها المقروءة إلكترونيًّا بأثمان زهيدة مثل تطبيق أبجد، ومنها في مرحلة لاحقة ومتقدمة ربما- أن تكون متوافرة على النت بلا أي مقابل.
9- هل هناك هدف تسعين لتحقيقه من خلال الكتابة، أم أن الكتابة هي الهدف في حد ذاته؟
مشروعي و همي الوحيد هو التنوير، هو فتح آفاق رحبة للقارىء وتعويده الفكر النقدي. أحاول أن أمنحه حريته المسلوبة في متعة التخلي عن أفكار وموروثات واعتناق أخرى دون فرض وجهة نظر بعينها، فقط ما أفعله هو محاولة تفنيد الأمور ووضع كل الاحتمالات أمامه، وهو من يختار. أقول له أن للحقيقة عدة أوجه وكلها صحيحة. أقول له تحرر من الدوجما وكل ما تم وضعه بداخل رأسك، وأعد ضبط بوصلتك بما يناسبك أنت وليس بما يناسب المجتمع.
مشروعي ليس مشروع خاص بكتابة بعينها، كالكتابة التاريخية أو الصوفية أو الغرائبية، فأنا ليس لديّ رواية تشبه الأخرى، كل رواية بمثابة تجربة جديدة على كل المستويات: البناء، السرد، الموضوع، اللغة. استمتع بكتابتها وأتحدى قدراتي في كل مرة، وأراهن نفسي أن عملية الاستمتاع ستكون متبادلة بيني وبين القارىء. كتبت روايات تاريخية، ورومانسية، ونفسية، وديستوبية. كنت طفلة شقية تحب اللعب ومشاكسة زميلاتها، والآن أنا كاتبة لا زالت تلعب وتشاكس القارىء وتنصب له الفخاخ بقلمها.
وروايتي الأخيرة "خداع واحد ممكن" الصادرة عن دار الشروق كانت بالنسبة لي أكبر لعبة ومغامرة وتجريب قمت به، إذ أنها في المقام الأول رواية نفسية، ولكنها قائمة على قصة رومانسية، وقد استخدمت فيها أدب الرحلات والحبكة البوليسية.
منذ بدايتي تمامًا، أشعر أن تعشيقي وربطي لكل الفنون والاتجاهات والفلسفات والتاريخ في الرواية الواحدة، ما هو إلا إنعكاسًا لتعدد وتشابك الأسئلة التي أطرحها والتي تمور بداخلي، وهي أيضًا بقدر تعقيد الحياة ومفاجآتها التي لا تنتهي.
وكما قلت في حوار سابق، أننا نكتب من أجل عالم أفضل، مع يقين تام بأن هذا لن يحدث.
لكننا نظل نكتب لنهرب من واقع بغيض، لنتحايل على الأرق والقلق الوجودي، وعلى حقيقة الموت، نكتب ربما لنشفي جروحنا .. وليتها تبرأ، ولنفهم أنفسنا .. وعسانا نفهم!

رضوى الأسود ليس لدى شلة ولا شبكة علاقات تدعم ظهورى